فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد السعدي في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ...}.
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض} أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة.
ولهذا قالت لهم الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ «التوفي» فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا.
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا}.
فهؤلاء قال الله فيهم: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} و«عسى» ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم.
وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقال في عموم الأوامر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَسَمَّى مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ قَيْسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا الْقَيْسِ بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَكَرَ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ دَخْلَهُمْ شَكٌّ وَقَالُوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [8: 49]، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَزَادَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ أَسْوَدَ، وَالُعَاصُ بْنُ مُنَبِّهٍ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بِمَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهُوا أَنْ يُهَاجِرُوا وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَخَرَجُوا، فَلَحِقَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} [29: 10]، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [16: 110]، الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَهُ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ قِسْمَيْنِ: دَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَأْمَنِهِمْ، وَدَارُ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرًّا فِي دِينِهِ لَا يُفْتَنُ عَنْهُ، وَحُرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُسَافِرَ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مُضْطَهَدًا فِي دِينِهِ يُفْتَنُ وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لِأَجْلِ هَذَا وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يُسْلِمُ لِيَكُونَ حُرًّا فِي دِينِهِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَلِيَكُونَ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يُهَاجِمُونَهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلِيَتَلَقَّى أَحْكَامَ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِهَا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِي إِسْلَامَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بِالطَّبْعِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ الَّذِي يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَهِجْرَتَهُ وَإِنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْمُقَاوَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ الْبَقَاءَ فِي وَطَنِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ يُؤْثِرُ مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْ مُرَاقَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَظُلْمِهِمْ، وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ حِيلَةٍ يَعْمَلُ وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْهِجْرَةَ لِضِعْفِ دِينِهِ وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَهَا، وَمَنْ يَتْرُكْهَا لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ وَظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إِلَخْ، تَوَفَّى الشَّيْءَ أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَفْظُ تَوَفَّاهُمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ: تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ جَائِزٌ هُنَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيَكُونُ سَحْبُ حُكْمِهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَامًّا بِنَصِّ الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَافَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِرِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي الذُّلِّ وَالظُّلْمِ حَيْثُ لَا حُرِّيَّةَ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ تَوَفِّيهَا لَهُمْ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ- فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ؟
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَا حَقِيقَةَ الِاسْتِعْلَامِ عَنْ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَلِهَذَا حَسُنَ فِي جَوَابِهِ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ تَقْصِيرِهِمُ الَّذِي وُبِّخُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِضْعَافِ، أَيْ: إِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَكُونَ فِي شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا لِاسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَنَا، فَرَدَّ الْمَلَائِكَةُ هُنَا الْعُذْرَ عَلَيْهِمْ وقَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وَتُحَرِّرُوا أَنْفُسَكُمْ مَنْ رِقِّ الذُّلِّ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ؟ أَيْ إِنَّ اسْتِضْعَافَ الْقَوْمِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَانِعُ لَكُمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا مُهَاجِرِينَ إِلَى حَيْثُ تَكُونُونَ فِي حُرِّيَّةٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا فَأُولِئَكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: بَلْ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْخَبَرُ أَمْ لَا لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَارُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، أَيْ وَقَبُحَتْ جَهَنَّمُ مَأْوًى وَمَصِيرًا لِمَنْ يَصِيرُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا يَسُوءُهُ لَا يَسُرُّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِجَهَنَّمَ كَمَا يَتَوَعَّدُ الْكُفَّارَ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لِلْقَادِرِ كَانَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَتَبَطَّنُوهُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْوًى مُؤَقَّتًا عَلَى قَدْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْإِقَامَةِ مَعَ الْكُفَّارِ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، وَمَا عَسَاهُمُ افْتَرَقُوا ثَمَّ مِنَ الْمَعَاصِي.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهِ كَمَا يَجِبُ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِقِ عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَقُومُ بِحَقِّ اللهِ، وَأَدْوَمُ عَلَى الْعِبَادَةِ، حَقَّتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرَةُ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِدُعَاءٍ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَتِهِ كَمَا يَجِبُ.
وَهَاكَ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَضْلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ لِغَيْرِ عَجْزٍ فَعَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ مَعْذُورٌ، وَمَعْنَى سَبِيلِ اللهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُرْضِيهِ وَيُقِيمُ دِينَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ قَوْمٍ أَخْلَدُوا إِلَى السُّكُونِ وَقَعَدُوا عَنْ نَصْرِ الدِّينِ بَلْ وَعَنْ إِقَامَتِهِ حَيْثُ هُوَ، وَعَذَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْكَفْرِ حَيْثُ اضْطَهَدَهُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْذُورِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، فَهُمْ بِحُبِّهِمْ لِبِلَادِهِمْ، وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسُكُونِهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ضُعَفَاءُ فِي الْحَقِّ لَا مُسْتَضْعَفُونَ، وَهُمْ بِضَعْفِهِمْ هَذَا قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ، فَظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ خَوْفًا مِنَ الْأَذَى، وَفَقْدُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ عُشَرَائِهِمُ الْمُبْطِلِينَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ هُوَ نَحْوٌ مِمَّا يَعْتَذِرُ بِهِ الَّذِينَ جَارَوْا أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ يَجُبُّونَ الْغَيْبَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُدَارُونَ الْمُبْطِلِينَ، وَهُوَ عُذْرٌ بَاطِلٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ احْتِمَالِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْهِجْرَةُ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْهِجْرَةِ، هَلْ وُجُوبُهَا مَضَى أَوْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ (قَالَ): وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ مِنَ الْعَمَلِ بِدِينِهِ، أَوْ يُؤْذَى فِيهِ إِيذَاءً لَا يَقْدِرُ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي دَارِ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَلَا يُؤْذَى إِذَا هُوَ عَمِلَ بِدِينِهِ، بَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ بِلَا نَكِيرٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ، وَذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ لِهَذَا الْعَهْدِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ سَبَبًا لِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ اهـ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُقِيمُونَ هُنَالِكَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ يُعَرِّفُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُبَيِّنُونَهَا لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، دَلَّ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا عَنْ عَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ بِهِ هِجْرَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ صَادِقِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِضْعَافَ الْحَقِيقِيَّ عُذْرٌ صَحِيحٌ وَلِذَلِكَ اسْتُثْنِيَ أَهْلُهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرْنُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجَالِ الشُّيُوخُ الضُّعَفَاءُ وَالْعَجَزَةُ الَّذِينَ هُمْ كَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، أَيْ قَدْ ضَاقَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ كُلُّهَا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رُكُوبَ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ جَمِيعُهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا طَرِيقًا مِنْهَا، إِمَّا لِلزِّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْجَهْلِ بِمَسَالِكِ الْأَرْضِ وَأَخْرَاتِهَا وَمَضَايِقِهَا، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا هَلَكُوا، أَيْ: بِرُكُوبِ التَّعَاسِيفِ أَوْ قِلَّةِ الزَّادِ أَوْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوِلْدَانَ هُنَا بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ.